
عباس خامه يار
عالم سُخِّرت فيه الكلمات لخدمة السياسة، واستُعبدت فيه المعاني لسطوة القوّة، لا يزال سؤالٌ جوهريّ، يخرج من بين أنقاض أرض محاصَرة، بصوت مخنوق بالحزن والمأساة: من المتحضر، ومن المتوحش؟
كلما اشتعلت أزمة في ركن من أركان هذا الكوكب، سارعت البوارج والأساطيل الغربية، وعلى رأسها الأميركية، إلى الرسو على السواحل، كأنها وصية على إخماد النيران… أو على صب الزيت عليها.
لكنّ السابع من تشرين الأوّل كان نقطة تحوّل. فهذه المرة، لم تقتصر المشاركة على البوارج، بل حضر زعماء الغرب بأنفسهم، من الولايات المتحدة وألمانيا إلى فرنسا وبريطانيا، في تنسيق غير مسبوق وسرعة مريبة.
أنطوني بلينكن، وزير خارجية أميركا، خلع بزته الديبلوماسية، وتولى قيادة غرفة عمليات الحرب إلى جانب جنرالات الاحتلال الصهيوني، في حرب لم تخف منذ لحظاتها الأولى وحشيتها، بل استهدفت الإنسان في جوهره، وأضرمت النيران في جسد الإنسانية.
قائد الجيش الألماني، وفي خطوة رمزية صادمة، تبرع بالدم لجنود الاحتلال في تل أبيب، في مشهد يعيد إلى الأذهان دورات التاريخ المظلمة، ولكن بوجه مقلوب هذه المرّة.
توالى بعده رؤساء أوروبا، يتقاطرون إلى مؤتمرات صحافية إلى جانب نتنياهو، يبتسمون ويخطبون، ويتحدثون عن «قيم الحضارة»، فيما كانت طائرات «الحضارة» تُمطر الموت على الأطفال.
وكان التصريح الأبرز في ذاكرة التاريخ، ذاك الذي أطلقه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في مؤتمر صحافي مشترك مع نتنياهو، إذ قال: «إنها حرب الحضارة ضدّ البربرية».
اليوم، وبعد مرور عامين على هذه الحرب، فيما لا تعرف غزة غير الخراب، وملايين النساء والرجال والأطفال يتنفسون تحت الحصار، بين العطش والجوع والانفجارات، يُطرَح السؤال من جديد، وبقوّة أشدّ:
يا سيادة الرئيس ماكرون، أيّ حضارة تلك التي تقف هنا، وأيّ توحش ذاك الذي يسكن هناك؟
أنتم ورثة الثورة الفرنسية الكبرى، التي أسقطت جدران الظلم بشعارها الخالد: «حرية، مساواة، أخوة». فهل بقي صدى لهذه القيم في مسامعكم؟
أيّ حضارة تلك التي تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان، وتُغمض عينيها عن جثث الأطفال تحت الركام؟
مَن المتحضّر: مَن يُنقذ الأرواح، أم مَن يُلقي القنابل على بيوت الآمنين؟
أيّ ثقافة تلك التي تسلب المحاصَرين خبزهم، وتمنع الماء عن شفاههم العطشى، وتقطع الكهرباء عن مستشفياتهم، وتهدم الجدران على رؤوس مرضاهم، ثم تتحدّث عن «القيم الإنسانيّة»؟
اليوم، ضمير الإنسانية ينزف. والإنسان، رغم كل ادّعاءاته، قد فشل في امتحان تاريخي.
لقد ارتكب الصهاينة مجازر جعلت هتلر والمغول وجلادي العصور الوسطى يبدون صغاراً أمامهم.
في عالم أفسدوا فيه اللغة، يجب أن نستردّ الكلمات؛ علينا أن ننتشل الحقيقة من تحت الأنقاض. إن كان هذا هو وجه الحضارة، فلنعُد إذاً إلى تعريف التوحّش. إذا كان الطفل الميت في حضن أمه «بربرياً»، والطيار الذي ألقى عليه القنبلة «متحضّراً»، فقد فقدنا اللغة، ومعها ضاعت الإنسانية.
اليوم، لا يبقى لنا إلا أن نقول:
شيءٌ من الخجل…
خجلٌ لأولئك الذين يقتلون،
وخجلٌ لمن يدعم القتلة،
وخجلٌ أعظم لأولئك الذين صمتوا!
ديبلوماسي إيراني